من طرف Sondos الأربعاء مارس 03, 2010 11:01 am
نبدأ باول قصة بعنوان
" قارئة الكف "
ظلت سميرة مستلقية على فراشها بعد أن صحت من نومها لفترة طويلة. تشعر بإرهاق شديد و قلق غير مبرر كأن كل الطاقة التي في جسدها قد تم سحبها لآخر قطرة. بالرغم من أن الساعة قد شارفت العاشرة صباحاً فأنها لم تعتن بالطفلين و لم تقدم لهما وجبة الإفطار بعد. و بالرغم من أن الكثير من الواجبات المنزلية تنتظرها فهي لا تشعر بأي رغبة في مغادرة السرير.هي مترددة و يائسة وتود لو تترك لحالها في غرفتها تجتر أحزانها. الآونة الأخيرة أصبحت تشعر طوال اليوم بملل و سأم شديدين. لا شيء يثير اهتمامها أو يمنحها الشعور بالمتعة و السعادة. أصبحت متوترة بدون أي مسبب و لا تطيق ضجيج الطفلين و هما يلعبان من حولها. كثيراً ما طلبت منهما أن يذهبا بعيداً للعب في حجرتهما أو في غرفة الاستقبال. تشعر أنها أقل حماسة من ذي قبل لاحتضانهما و تقبيلهما أو للاستجابة لطلباتهما، و لعلّ الطفلين أدركا ذلك بحاستهما و آثرا أن يبتعدا عنها لكي لا يغضباها. هي لا تدري لماذا هذا الشعور المؤلم بالإرهاق و مع أنها خلدت لسريرها مبكرة لكنها تدري أنها قضت وقتاً طويلاً تجتر أفكاراً و أحداثاً محزنة و مقلقة، و حتى بعد أن غفت كانت تصحو من آن لآخر و هي قلقة و حزينة. النوم في حد ذاته أصبح هاجسا مرعباً بالنسبة لها لما يحويه من أحلام مزعجة و كوابيس مخيفة. شهيتها للطعام أصبحت ضعيفة للغاية وقد تقضي يومها بأكمله بدون طعام ومن غير أن تشعر بالجوع.
رجعت بذاكرتها للوراء؛ فقط من قبل خمسة أسابيع كانت ممتلئة حيوية و نشاطا. كانت تبدو سعيدة ضاحكة مبتسمة على الدوام. و لم لا تكون كذلك فقد حقق الله لها كل أمانيها. لقد أكملت دراستها الجامعية و تزوجت بكمال شقيق صديقة طفولتها مريم. كان كمال هو فتى أحلامها منذ فترة الجامعة، و كانت معجبة به لأدبه و أخلاقه ولوسامته. هي لا تنكر أن مريم ساهمت كثيراً في التقريب بينهما إلى أن تقدم كمال لخطبتها. لقد كانت و مريم ليستا كالصديقتين فقط بل كالأختين تحترمان وتعجبان يبعضهما. رزقت سميرة من كمال بطفلين جميلين، سامي و هو في الخامسة و سمية و هي في الثالثة. الأسرة الصغيرة تعيش في شقة متوسطة الحجم أهداها والد كمال لهما بمناسبة زواجهما. كمال يعمل مهندساً في إحدى الشركات المعروفة براتب مجزي. لا شيء ينقص الأسرة التي تحيط بها مجموعة من الأسر الصديقة و الأقارب الذين استطاعت أن تخلق معهم علاقات اجتماعية متينة.
استرسلت سميرة في أفكارها " يا الله !!! ما بال هذا الصداع يلازمني طول الوقت. أشعر كأن رأسي سوف ينفجر في أي لحظة.. جسمي منهك ... أفكاري مشتتة... تركيزي ضعيف.. لا أستطيع أن أقرر أي شيء... أشعر بدوخة وبدوار كلما وقفت على رجلي."
في الآونة الأخيرة بدأت سميرة تلوم نفسها كثيرا لإهمالها لنفسها و لزوجها و لأطفالها. كل شيء في المنزل مبعثر، لا تجد الطاقة أو الرغبة اللازمة لأداء واجباتها المنزلية و الأسرية . كل الأشياء التي كانت تستمتع بها الآن أصبحت غير ذات أهمية بالنسبة لها. البرامج التلفزيونية التي كانت تتابعها بانتظام .. الاتصال تلفونيا بصديقاتها للتحدث إليهن لأوقات طويلة.. زيارة صديقاتها أو استقبالهن في شقتها.. . قضاء ساعات بالمطبخ لإعداد الوجبات الشهية التي يحبها كمال. من وقت لآخر ينتابها شعور بالذنب لأشياء تافهة حدثت منها تجاه بعض الصديقات والأقارب. شعور بالذنب لاعتقادها أنها اقترفت الكثير من السيئات و الذنوب التي تستحق أن يعاقبها عليها الله سبحانه و تعالى. أحياناً تشعر أنها تستحق ما آل إليه حالها لأنه غضب من الله لعصيانها له و عدم الالتزام بواجباتها الدينية. تشعر أنها لا تستحق أي شفقة أو رحمة من أحد لأنها عاجزة فاشلة ولا تستحق أن تكون زوجة لكمال أو أم لأطفاله.
فجأة توقف سيل أفكارها لسماعها جرس الباب الخارجي. إنها لا تريد أن يدخل عليها أحد ويجدها لا تزال بملابس النوم مهملة أطفالها ومنزلها وحتى نفسها. وهي تحاول النهوض من سريرها إذ تدخل عليها والدتها الغرفة بصحبة طفليها اللذين يبدوان في حالة يرثى لها من القذارة.
بادرتها والدتها: "سلامتك يا سميرة!! إلى الآن وأنت في السرير.. البيت حالو حال . ما بك يا سميرة.. هل حصل بينك وكمال شيء؟"
أقسمت سميرة لأمها أن كل شيء بينها وكمال على ما يرام بل هي تشعر أنها مقصرة في حقه وحق أولاده. كمال نفسه محتار في أمرها. لقد أخذها إلى عدد من الأطباء الذين أكدوا لهما أن الكشف السر يرى والفحوصات المخبرية لم تظهر أي شيء سلبي. أحدهم نصح إبراهيم أن يأخذها لطبيب نفسي إلا أن كلاهما يرفض الفكرة. ماذا يقول الناس عنها؟ سيقول البعض أنها مجنونة.
" لازم أصابتك عين أو حد عمل لك سحر." أكدت الأم. " سأمر على أم سليمان لأحضرها أنها خبيرة بكشف وإبطال أي سحر أو عين."
بسرعة قامت الأم بتنظيف وتغيير ملابس الطفلين وإطعامهما. طلبت من سميرة أن تعتني بنفسها وتبدل ثيابها ريثما تعود بأم سليمان. عادت سريعا مع أم سليمان وهي سيدة في الخمسينيات من عمرها تبدو من نظراتها الفطنة والذكاء وقد اشتهرت في الحي بقراءة الكف وكشف الغيب وإفساد عمل العين والسحر. أجلست سميرة بجانبها وأخذت بكفها الأيمن وركزت عليه بنظراتها الثاقبة وبدت لفترة كأنها في حالة ذهول قبل أن تؤكد للاثنتين أن ما بسميرة ما هو إلا عمل قامت به سيدة معروفة للاثنتين في الثلاثين من عمرها وبدأت تعدد صفاتها بأسلوب ذكي قد ينطبق على الكثيرات.
صاحت سميرة أنها عرفت تلك السيدة. إنها مريم شقيقة كمال زوجها. الوصف ينطبق عليها تماما. كانت سميرة تعتقد أن مريم تغيرت كثيراً في الآونة الأخيرة. توقفت عن الزيارة والسؤال عن سميرة التي تعتقد أن مريم تغار منها وتحسدها على سعادتها مع كمال وها هي تلجأ إلى السحر للتفريق بينهما.
بادرتها أمها !!! "حرام عليك يا سميرة...مريم تحبك وتعتز بصداقتك.. انتو زى الأخوات . ما تنسى هي الرشحتك لكمال للزواج. حرام تظلميها."
لم تضيع العرافة الوقت وأخذت تبحث عن العمل وأخيراً أخبرت الأم أنها عثرت عليه مخبأ تحت وسادة سميرة عبارة عن لفافة صغيرة من القماش تحتوى على مسحوق اسود. أخذت أم سليمان اللفافة إلى المطبخ وأشعلت فيها النار للتخلص نهائيا من ذلك العمل. وقامت بطمأنة سميرة على أنها ستستعيد عافيتها تماما في الحال.
أطلعت سميرة كمال بكل ما جرى ذلك اليوم وهي تشعر بشيء من الارتياح. والدتها حذرتها من ذكر اسم مريم لزوجها حتى لا تثير غضبه عليها لأنه يحب شقيقته كثيراً.وفي تلك الليلة نامت سميرة مبكراً وشعر كمال أن الأمور تسير للأحسن وحمد الله على كل شيء.
للأسف صحت سميرة حوالي الثالثة صباحا وهي تجهث بالبكاء. لقد حلمت حلماً مخيفاً إذ رأت نفسها وهي تهوي داخل بئر عميقة. صحت من نومها وهي تصرخ وتنادي على كمال مستغيثة به. فكر كمال في أن يأخذها إلى الطبيب النفسي ذلك اليوم إلا أن والدة سميرة رفضت الفكرة وفضلت إحضار قارئة قرآن.
استمرت حالة سميرة في التدهور. لم تستطع القيام بواجباتها نحو أسرتها بل لم تستطع حتى العناية بنفسها مما اضطر والدتها للبقاء بالمنزل طيلة اليوم للإشراف على الطفلين وشؤون المنزل. بدأت تردد أنها تسمع صوتا هامساً يشبه صوت مريم ينبعث من جهاز التلفون وهو يسبها بأقذر العبارات ويلعنها. الصوت يقول عنها أنها أم وزوجة فاشلة وأنها لا تستأهل أن تكون زوجة لكمال وأم لعياله. يصفها بالغدارة ويسخر من تصرفاتها. بل وصل الحد الذي ذكر لها الصوت أنها لا تستحق الحياة بل الأفضل للجميع لو أنها اختفت عن هذه الدنيا..
تعجب كمال من أمر ذلك الصوت لأنه ليس بالمنطقي أو المعقول أن يصدر من جهاز التلفون بدون أن يرن أو تلتقط سماعته. كذلك لم يصدق أن شقيقته يمكن أن تكيد لزوجته بأي أسلوب كان. لكن سميرة كانت تزداد كل يوم قناعة وتأكيداً.
كانت سميرة بادئ الأمر تنكر على الصوت ذلك القول وأخيراً ابتدأت تغير من رأيها. لربما كان ذلك حقيقة ومهما كان مصدر الصوت فهو يقول الحقيقة عنها لأنها تسببت في ضياع كل الأسرة. و أخيراً قررت في نفسها أمراً مرعباً بعد أن بلغ منها اليأس مبلغه. لقد قررت أن تنتحر لتريح الجميع من كل ما سببته لهم من آلام ولعل كمال يتزوج خيراً منها لترعى الطفلين.
صباح اليوم التالي وقبل أن يغادر زوجها المنزل لعمله اعتذرت له كثيرا لإهمالها وذكرت له انه سوف لن يعاني بسببها بعد اليوم وطلبت منه أن يضمها إليه بشدة وتعلقت به لفترة وهي تجهث بالبكاء. طمأنها كمال على انه سوف لن يتخلى عنها وسوف يقف إلى جانبها إلى أن تستعيد عافيتها تماماً وودعها على أن يراها بعد نهاية عمله. وخرج وهو يعلم أن والدة سميرة سوف تحضر بعد ساعتين لتتولى شؤون المنزل.
توجهت سميرة بعد خروج زوجها إلى غرفة الطفلين. لا زالا نائمين. قبلتهما برفق لكي لا يصحبا وهي تبكى في صمت ومن ثم أغلقت الباب عليهما ثم توجهت إلى غرفتها. ابتلعت قرصين من الحبوب المنومة التي تلقتها من احد الأطباء قبل أن تستلقي على سريرها ثم تلت الشهادة على روحها. بعدها أحدثت بجرأة قطعا عميقا بيدها اليسرى بشفرة أعدتها لهذا الغرض. وبعد أن رأت الدم يسيل من الجرح تغطت بلحافها مستسلمة لقدرها.
بعد أن وصل كمال لمكان عمله راودته الشكوك عن تصرف زوجته. ماذا تعنى بأنه سوف لن يعاني بسببها بعد اليوم, هل هي تدبر أمراً مرعباً؟ غادر مكتبه على الفور واستقل سيارته راجعاً إلى المنزل. بسرعة دلف إلى غرفة النوم ليرى سميرة مغطاة باللحاف وعند كشفه هاله رؤية الدماء تسيل بغزارة على الفراش. هرول للخارج ولحسن حظه التقى بجاره وهو عائد من الخارج. تعاون الاثنان على إيقاف النزيف وحملا سميرة إلى السيارة وتوجها إلى المستشفي حيث تم إسعاف سميرة التي استعادت وعيها بعد زمن وجيز ومن ثم تمّ تحويلها إلى قسم النفسية.
تم تشخيص حالة سميرة على أنها حالة اكتئاب نفسي شديد ولام الطبيب كمال كثيراً على تأخره في تقديم زوجته للعلاج مبكراً وقرر لخطورة الحالة إدخال سميرة القسم الداخلي وبدأ العلاج بالجلسات الكهربائية التي استجابت لها سميرة سريعاً.
بعد عدة أسابيع تم خروج سميرة من المستشفى. كانت تبدو سعيدة ومتشوقة لاستعادة حياتها الأسرية والاجتماعية بصورة طبيعية. الآن تشعر كأنها ولدت من جديد. لاتصدق أنها تعيش من جديد بين أسرتها يحيط بها زوجها وطفليها وأصدقائها ومن بينهم مريم صديقة الطفولة التي كانت متفهمة تماما لاتهامات سميرة لها أثناء مرضها. كل يوم وهي تدعو وتشكر ربها على استمرارها في الحياة لأجل طفليها وزوجها الذين وعدت نفسها أن تعوضهم كل الحرمان العاطفي والتقصير طيلة مرضها.
...